عادة ما يدّخر الناس أموالهم لأسباب عديدة، بعضها لشراء حاجيات معينة، وبعضها الآخر للقيام ببعض التحسينات أو العلاجات الطبية أو غيرها. في حين يرى البعض أن الادخار حاجة لحفظ المزيد من المال، ربما لتأمين مصاريفهم بعد التقاعد، أو لجمع ثروة، أو لأسباب لا تخطر في بالنا. وعادة ما تنخفض كميات الادخار الشخصي أثناء فترات الركود الاقتصادي، لأن الناس يفضلون الحفاظ على مستوى استهلاكهم المعتاد. لكن ومع زيادة حالة الركود، وضعف الاقتصاد بشكل أكبر، يزداد ادخارهم خوفًا من الحاجة لهذه الأموال في الأوقات اللاحقة. ويعزى هذا بشكل كبير إلى الخوف من خسارة فرص العمل مستقبلًا، والعمل على خفض الديون، والخوف من التقلبات الكبيرة في أسعار الأسهم والإسكان. وعلى الرغم من أن عمليات الادخار هذه تعود على الأفراد بالفائدة، إلا أنها تضر بالاقتصاد ككل. فهل يكون الادخار مفيدًا أو ضارًا؟ هذا ما سنتعرف عليه في مقالنا الذي يدور حول نظرية مفارقة الادخار.
ما هي نظرية مفارقة الادخار
إن مفارقة الادخار (The Paradox Of Thrift)، أو مفارقة التوفير، نظرية اقتصادية تفرض أن المدخرات الشخصية تشكل عبئًا صافيًا على الاقتصاد أثناء فترة الركود. وتعتمد هذه النظرية على افتراض أن الأسعار غير ثابتة أو أن المنتجين يفشلون في التكيف مع الظروف المتغيرة. وهي مفهوم أطلقه الاقتصادي البريطاني جون كينز.
وتبعًا لنظرية كينز، فإن الاستجابة السليمة للركود الاقتصادي تكون بزيادة كمية الإنفاق، والمجازفة بالمال، وتقليل المدخرات. ويزعم اتباع كينز أن الاستهلاك يدفع بركب النمو الاقتصادي. وبالتالي، فمن المنطقي أن يضر تخفيض الأفراد لكمية الاستهلاك بالاقتصاد.
وقد يؤدي نقص الإنفاق الاستهلاكي الإجمالي إلى إجبار الشركات على إنتاج كميات أقل من منتجاتها، الأمر الذي يعني زيادة الركود بشكل أكبر. ويعتبر هذا الشرخ بين العقلانية الفردية والجماعية أساس مفارقة الادخار، وعليه بنيت نظرية كينز. وقد شهدت أمريكا ذلك خلال فترة الركود الكبير التي أعقبت الأزمة المالية عام 2008. إذ ارتفع معدل ادخار الأسر الأمريكية من2.9 % إلى 5%، فخفض البنك الفيدرالي الاحتياطي فوائده لزيادة الإنفاق الأمريكي من جديد.
نموذج التدفق الاقتصادي الدائري
ساهم كينز في إحياء نموذج التدفق الدائري للاقتصاد. إذ تنص هذه النظرية على أن زيادة الإنفاق الحالي تزيد الإنفاق المستقبلي. إذ يؤدي الإنفاق الحالي إلى زيادة دخل المنتجين الحاليين، الذي يوسعون بدورهم نطاق أعمالهم التجارية، ويشترون الآلات والمعدات من منتجين آخرين، ويوظفون عمالًا جدد يكسبون دخلًا جديدًا يمكن إنفاقه بعد ذلك.
ولتعزيز الإنفاق الحالي، دعا كينز إلى خفض أسعار الفائدة، لخفض معدلات الادخار الحالية. وأردف كينز، أنه وفي حال عدم مساهمة خفض نسب الفوائد في زيادة فرص الإنفاق، عندها يتوجب على الحكومة المساهمة في الإنفاق بكافة السبل لسد الفجوة.
عيوب نظرية مفارقة الادخار
يتجاهل نموذج التدفق الدائري قانون ساي، الذي ينص على ضرورة إنتاج السلع قبل تبادلها. وأن آلات رأس المال التي تدفع مستويات الإنتاج نحو الارتفاع، تحتاج إلى تحقيق وفورات استثمارية إضافية. إذ لا يعمل نموذج التدفق الدائري إلا في إطار لا يخلُ من السلع الرأسمالية.
كما أن النظرية تتجاهل احتمال التضخم أو الانكماش. فإذا أدى ارتفاع الإنفاق الجاري إلى ارتفاع الأسعار في المستقبل بشكل متوازن، فإن الإنتاج والعمالة لن يتغيرا. وعلى نحو مماثل، إذا كانت عملية الادخار الحالي في فترة الركود سببًا في فرض هبوط الأسعار في المستقبل، فلا ينبغي أن ينخفض كل من العمالة والإنتاج كما توقع كينز.
وعلى الجانب الآخر، تتجاهل أيضًا نظرية مفارقة الادخار إمكانية إقراض البنوك للدخل المدخر. بالتالي، عندما يزيد بعض الأفراد من مدخراتهم، تميل أسعار الفائدة إلى الانخفاض، وتقدم البنوك قروضًا إضافية تساعد الأفراد الآخرين على الإنفاق. وقد قابل كينز هذه الاعتراضات بحجة أن قانون ساي كان خاطئًا، وأن الأسعار أكثر صرامة من أن تتكيف بالشكل الأمثل.
أمثلة عن نظرية مفارقة الادخار
يملك إيفان مصنعًا ينتج عتادًا حاسوبيًا. ويعتبر هذا المصنع من أكبر المصانع الموجودة في المدينة. وقد خطط إيفان لتوسيع قدرة مصنعه الإنتاجية من خلال شراء المزيد من الآلات، وتوظيف المزيد من العمال. ومع ذلك، أصاب الركود مصنع إيفان، واضطر للعودة إلى وضع الادخار. وهذا ما دفعه إلى تسريح بعض العمال، وإيقاف عمل الآلات في الليل. وبدورهم العاطلون عن العمل من العمال، بدأوا بادخار أموالهم المتبقية؛ مما قلل الطلب على السلع التي ينتجها المصنع. ليس هذا فحسب، بل أضاف العمال العاطلون إلى الإنفاق الإجمالي للبلدة من مصاريف الاستحقاقات الاجتماعية مما أضعف اقتصادها.
ومن الأمثلة الأخرى على مفارقة الادخار، هي عودة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 للعيش مع ذويهم بدلًا من استئجار الشقق المنفردة. وقد ارتفعت نسبة هؤلاء في الآونة الأخيرة من 14% في 2005 إلى 19% في 2011. وفي حين ساعدت هذه الخطوة الأسر على توفير المال المنفق على الإيجار والنفقات الأخرى المختلفة من فواتير ماء وكهرباء وغيرها؛ إلا أنها تسببت في أضرار اقتصادية على البلاد تقدر بحوالي 25 مليار دولار سنويًا.
وبهذا يمكن لنا القول إن الادخار خيار جيد، إلا أن المبالغة فيه في أوقات الركود الاقتصادي قد تتسبب بدمار هائل في اقتصاد البلاد. وبالنظر إلى نظرية مفارقة الادخار وبعد التفكير مليًا نستطيع تطبيقها على مجمل حياتنا لنجد أنها دقيقة بشكل أكثر من كاف ليجعلنا نفكر مليًا قبل تخرين الأموال في حصالات أو تجميدها في أحد الصناديق في الخزانة، أو حتى وضع المبالغ الكبيرة في البنوك والتقتير في مصاريفنا لزيادة هذه المدخرات.