نعتقد أننا بطبيعتنا الغريزية قادرون على فهم مختلف تحركات الاقتصاد، مشكّلين في عقولنا مخططًا متشابكًا للآلية المتبعة في تحريك السوق، غير آبهين بعلوم الاقتصاد من حوالنا، ضاربين بها عرض الحائط. فالأمر في نظرنا بعض عمليات البيع والشراء التي تتحكم بها الشركات والمصالح المشتركة بين تجار لا يهابون شيئًا، مُنحوا قوة السيطرة على حياة الشعوب وقوتهم اليومي والقدرة على إقناع حكومات كبيرة بسيطرتهم وأهميتهم لتتماشى مع مقترحاتهم. إلا أن الأمر يتعدى مختلف هذه الأفكار بكل تأكيد؛ وبأقل تقدير يمكن القول إن كل ما ننسجه في خيالنا لا يتعدَ كونه يشكل 3% ربما من مخطط التجارة العام. فالسوق يتحرك بقوى مختلفة، ليس فقط بقوة هؤلاء التجار؛ بل تسيطر عليه قوى غير مرئية تسعى إلى تحقيق المنافع الشخصية دون أي تدخل حكومي. وهذا ما يسمى في علوم الاقتصاد بنظرية اليد الخفية؛ وهو ما سنوضحه بشكل مفصل في مقالنا هذا.

ما هي نظرية اليد الخفية

نظرية اليد الخفية (The Invisible Hand Theory) هي كناية عن القوى غير المرئية التي تحرك اقتصاد السوق الحر. ومن خلال المصلحة الذاتية الفردية وحرية الإنتاج والاستهلاك، تتحقق المصلحة الكبرى للمجتمع ككل. ويؤدي التفاعل المستمر للضغوط الفردية على العرض والطلب في السوق إلى الحركة الطبيعية للأسعار وتدفق التجارة.

وقد قدم هذا المفهوم الاقتصادي آدم سميث في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية في العام 1759.

كيف تعمل نظرية اليد الخفية

تسعى نظرية اليد الخفية إلى تحقيق المنافع الشخصية والحريات الإنتاجية دون أي تدخل حكومي. فيؤدي تفاعل الأفراد المستمر وتحريكهم عجلة السوق عبر عمليتي العرض والطلب إلى إشباع الاستهلاك؛ مما يصب في مصلحة المجتمع ككل.

ويقوم مصطلح اليد الخفية على مبدأ let do/ let go أي أن النهج السائد في السوق يمكن أن يحقق التوازن دون تدخل حكومي أو تدخل أي سلطة تدفع حركة السوق نحو منحى غير طبيعي أو مألوف.

وقد أطلق آدم سميث مصطلح اليد كاستعارة عن فكرة أن التجارة الطوعية في السوق الحرة تنتج فوائد غير مقصودة وواسعة النطاق، في حين تعود هذه الفوائد بفوائد أكبر من فوائد الاقتصاد المخطط المنظم. بمعنى آخر، أشار سميث إلى مختلف آليات التسعير والتوزيع التلقائية في الاقتصاد التي تتفاعل بشكل مباشر وغير مباشر مع سلطات التخطيط المركزية جميعها.

أي يمكن القول بطريقة أخرى، أن كل تبادل حر للسلع والخدمات يخلق حركة اقتصادية في السوق توجه المستهلكين والمنتجين والموزعين والوسطاء على اختلافهم نحو متابعة خططهم لتلبية احتياجات الآخرين بشكل تلقائي.

أمثلة عن نظرية اليد الخفيّة

جرى تقسيم أحد العقارات المعزولة إلى مجموعة من المزارع المقسمة بين عدد من المتنافسين. ويسعى أصحاب هذه المزارع كل على حدا إلى تحقيق أقصى استفادة وربح من عائدات مزارعهم. فيجلب كل منهم أحدث الآلات والتجهيزات والتقنيات، ويبدأ بضخ السلع الزراعية التي يحتاجها المواطنون في السوق. وهنا بدأت العائدات ترتفع بكثرة مما كانت عليه في وقت امتلاك شخص واحد لكامل العقار وإدارته بشكل فردي، نظرًا لتحريك السوق بالمنتجات المتنافسة، وضخها بشكل كبير يستوفي حاجة المواطنين من السلع وبأسعار منافسة، فيقدمون على الشراء بشكل كبير.

بمثال آخر، عندما تذهب إلى السوق لشراء بعض الحاجيات الأساسية، فأنت تفعل ذلك لخدمة مصلحة شخصية. لكن في الوقت نفسه تحقق مصلحة البائع والتاجر. أي أن مصلحتكما باتت مشتركة، وهكذا.

مزايا نظرية اليد الخفية

استطاعت هذه النظرية على مدى عدة قرون أن تستقطب العديد من المناصرين، وتؤكد على نجاحها بعد التقدم الذي حققه الاقتصاد العالمي على إثرها. ويعود ذلك إلى مجموعة من المزايا الرئيسية منها:

  • الكفاءة: تحت راية نظرية اليد الخفية، يسيّر دافع الربح المنتجين، ويحفزهم لزيادة فعالية المنتجات وجودتها. وعلى الجانب الآخر، قد يسعى المنتجون إلى تقليل الجودة في سبيل تحقيق أقصى مقدار من الربح. وعند هذه النقطة، لن يستمر العملاء في التعامل مع الشركة، وشراء منتجاتها ذات الجودة الرديئة. وسيتناسب مقدار الطلب مع الجودة، فتعود الشركة إلى حالة من الكساد. لذا تضطر إلى تحسين الكفاءة والحفاظ على الجودة.
  • الحرية: تعتمد اليد الخفية على مصلحة الأفراد الذاتية. ومع ذلك، فإن هذا يستند إلى الخيارات المجانية للأشخاص. فلن يقدم الخباز الخبز لزبائنه بالمجان، وليس مجبرًا على ذلك. لذا يعمد إلى تحقيق حصة السوق اليومية لينتج بالقدر المطلوب والمناسب فقط.
  • الأمثل اجتماعيًا: تتيح هذه النظرية تذبذب العرض والطلب وتوازن السوق، وينظر إلى هذه النقطة على أنها النقطة المثلى اجتماعيًا لأنها تتجنب النقص والعرض الزائد. أي يزيد العرض من استجابة السوق لزيادة الأسعار، ويتحفز المنتجون لزيادة الإنتاج وجودته. وبالمثل، يكون الطلب منخفضًا ويحفز على خفض الأسعار لمضاهاة العرض بالطلب.

عيوب نظرية اليد الخفية

كما تتوج نظرية اليد الخفية مجموعة من المميزات التي حملتها نحو الشهرة والقبول الكبيرين، إلا أن بعض السلبيات والعيوب تتخللها. ويعتبر العيب الرئيسي فيها في كونها تستند إلى حد كبير إلى افتراض أن الأسواق فعالة وأن الناس عقلانيون. فقد لا تؤدي زيادات الأسعار دائمًا إلى انخفاض الطلب، كما قد لا يتفاعل الناس دائمًا بنفس درجة العقلانية التي نتصور.

كما يوجد مجموعة من العيوب الأخرى التي نذكر منها:

  • السليبات الخارجية: يكمن أحد العيوب الأساسية في أنه من خلال متابعة مصالحهم الذاتية، يمكن للناس والشركات خلق تكاليف خارجية إضافية. مثل الإفراط في صيد الأسماك، أو نشر التلوث. مما يؤدي بدوره إلى تكليف المجتمع بتكاليف غير محتسبة ضمن التكاليف النهائية للسلع.
  • اللاعقلانية: لا تعمل اليد الخفية بكفاءة بشكل دائم، وخاصة عندما يتعلق الأمر ببعض الصناعات، نظرًا لميل البشر إلى الانحياز العاطفي اللاعقلاني في بعض الأحيان. على سبيل المثال، إذا ما نظرنا إلى ازدهار دوت كوم قرب نهاية القرن العشرين وإلى القرن الحادي والعشرين، نرى كيف وقع سماسرة البورصة في موجة من التفاؤل غير العقلاني، واشتروا أسهمًا كانت تخسر أموالًا، إلا أنهم اعتقدوا أن النمو السريع في الإيرادات سيضمن الربحية على المدى الطويل.
  • مشاكل العالم الحقيقي: على سبيل المثال، إذا انخفض الطلب، قد يتسبب ذلك في فقدان الناس لوظائفهم، مما سيجبرهم على العيش دون دخل مادي لفترة من الزمن. وسيقل طلبهم على العديد من المنتجات في السوق، مما يؤدي إلى تخفيف حركة الشراء، وبالتالي، تخفيف عمليات الإنتاج والبيع.

وبهذا نكون قد قدمنا لمحة موجزة عن مفهوم نظرية اليد الخفية التي قدمها آدم سميث. لكننا نؤكد أن هذه النظرية تسير وفق منهج تلقائي منذ قرون. فلا حاجة للاعتقاد أننا باتباع هذه الأفكار سنتمكن من تغيير الاقتصاد. ومن المؤكد أننا فاعلون بنسبة معينة، لكن فردًا بمفرده لا يؤثر تأثيرًا يذكر في اقتصاد البلد.